رنا شهريار : تَرَكَتْ تجربتي بصمة لا تُمحى وجعلتني أكثر إيجابية

ما زلت أتذكر ذلك التاريخ، إنه محفور في ذاكرتي 14 يونيو 2013 ، شعرت بضيق يتبعه ألم في صدري. لم يكن ذلك الوجع الذي ينتابني بعد ما أبذله من مجهود في تمرين الضغط عندما يكون حملي كله على القفص الصدري. شعرت بالانزعاج من هذا الألم الذي يدفع قلبي في محاولة لترك صدري، وقلبي يستجيب بضربه بطريقة مرضَية أعرفها. ذهبت إلى المستشفى لإجراء مخطط كهربي على القلب، حملتني سنواتي الدراسية السابقة في الفيزياء على أن أكون خبيرا به. ثم وضعوا أنبوب وريدي في يدي، وهو الأول من بين العديد في ذلك العام، ثم صاحبوني لغرفة الأشعة المقطعية.

حكى رنا شهريار- عن تجربته مع المرض قائلاً ” في النهاية تم تشخيصي بسرطان الغدد الليمفاوية. كانت هناك طبيبة تقوم بالتناوب مع الفريق المشرف عليَ، وأخبرتني أن سرطان الغدد الليمفاوية هو بالفعل سرطان، ولكن ينجو معظم المصابين به في عمري. وفي هذه اللحظة كل ما دار في رأسي هو عبارة: “رائع، سأخوض هذه التجربة، وسأتذكرها وأكون مدين لها طوال حياتي القادمة، ضحكت.  تناقشت الطبيبة مع أبواي حول مرضي وبعد الكثير من التردد وقليل من القلق صرحت بأنها ستزورني كل مساء وسنتحدث عن اهتماماتي الدراسية، وما الذي أفعله من أجل المتعة وما خططت للقيام به بعد المدرسة الثانوية … وحدث ذلك عندما خطر لي أنني قد لا أرى أصدقائي لبعض الوقت. سألت والدي عما إذا كان بإمكاني الذهاب إلى المدرسة بعد ذلك، فقالا إن العلاج سيستغرق على الأرجح بضعة أشهر، لذلك لا يمكننا تحديد الوقت حالياً.

ومن أجل تأكيد التشخيص، طلب الأطباء أخذ خزعة، لكن لأنهم كانوا يأخذون عينة من صدري، كان علي أن أكون مستيقظاً أثناء العملية و بمجرد التئام الجرح ، تم تحويلي إلى المركز الوطني لعلاج وأبحاث السرطان في قطر وانتظرت في غرفة مشتركة قبل تجهيز غرفة خاصة لي. بدأت في تناول عقاقير لتثبيط الالتهاب حول كتلة الورم، وفي هذه اللحظة من حياتي تقابلت  بأنواع البشر المختلفة الذين يتعاملون معي. تأتي الممرضات كل صباح لفحص العناصر الحيوية وإعطائي الأدوية، قد يمزحن معي قليلاً ويسألنني عما أقرأه. كانت والدتي تأتي مع بعض الطعام وتجلس لبعض الوقت وتسأل عن حالتي قبل أن تتوجَه لاصطحاب أشقائي من المدرسة. أما والدي فيأتي بعد العمل، لنتحدث لبعض الوقت ثم ينام على الأريكة بجوار سريري..

ومع ذلك، كانت تفاعلاتي الشخصية محدودة بشكل عام، وأكون وحدي مع الأجهزة الطبية معظم اليوم.  يقيد المرض صاحبه، لأن الناس يتعاملون معك كشخص ضعيف، غير إنهم يرون القفز من المرتفعات سيؤدي إلى تحريك الكتلة للأسفل والتأثير على القلب، هذا غير الشفقة التي لا تفارق وجوه المحيطين، نظرة لا تروق لي، ولكنها تحدث. وفي يوم ميلادي، زارتني جدتي، وكان على والديّ أن يشرحا لها تشخيصي، رغم أنها قرأت اسم المستشفى في طريقها إلى غرفتي. وأثناء إعطائي كعكتي، قالت لي “لماذا يحدث لك هذا؟ يا لها من حياه بائسة “. للأسف لقد كان نوعًا من التعاطف واليأس الذي لم أره كثيرًا لحسن الحظ، ولكن عندما واجهت ذلك، كان بإمكاني أن أنظرفي أعينهم للحظة وأجد شابًا ضعيفًا لا يشعر بالسعادة وأنه سيموت قريبًا. بالطبع لم نعد في السبعينيات، ونجح العلاج في حالتي وأدركت حينها أن الموت كان احتمالًا بعيدًا.

هناك شيئاً واحداً فقط سأفعله إذا كان بإمكاني العودة بالزمن -كنت سأقضي المزيد من الوقت مع أصدقائي. فسماعهم يتحدثون عن إنهاء السنة الأخيرة من المدرسة الثانوية في المحادثات الجماعية يجعلني أشعر بأنني ابتعدت عنهم كثيراً؛ على الأقل إذا كان بإمكاني شرح وضعي، فسأكون قادرًا على المشاركة في المحادثة بحرية أكثر. وبدلاً من ذلك حاولت الحد من الانخراط معهم في المزيد من الحوارات محاولاً بذلك تلبية رغبات والداي فعلى الأقل ليس الأمر على مثل هذا النحو من الأهمية.

يقضي العلاج الكيميائي على قدرة نخاع العظم على تكوين خلايا جديدة، بما في ذلك خلايا الدم البيضاء مما يجعلك عرضة للعدوى. وحتى تعيد خلايا الدم البيضاء عملها، أعطاني الأطباء نيوبوجين، والذي له تأثير جانبي نادر وهو التسبب في آلام المفاصل. عانيت أشد المعاناة من هذه الأثار الجانبية، لكم قضيت أيامًا في المنزل جالسًا القرفصاء كالكرة؛ ومع كل حركة أشعر وكأن هناك خنجر ساخن يضربني في المفاصل.  هذا غير نزلات البرد التي لم تفارقني طيلة الوقت. هذه المرة كان من المستحيل إخفاء مرضي عن جيراني وأصدقائي. فليس من السهل إخفاء فروة رأس عارية وحاجبين غائبين.  كان جاري يتردد على كثيراً، ولكني طوال الوقت كنت كالكرة الملتفَة على الأريكة أبحث عن جلسة مريحة. وبمجرد مرور الأيام المريرة، تمكنت من زيارة مدرستي الثانوية. وعند وصولي إلى المكتبة، عانقتني أمينة المكتبة بحرارة منقطعة النظير. كانت تعلم أن لدي هواية ناشئة في لعب الكريكيت ، لذا أعطتني كتابًا عن تاريخ لعبة الكريكيت وجلست كما كنت أتمنى قبل بضعة أسابيع ، أقرأ كتابًا بينما أشاهد شروق الشمس من النافذة. التقيت بأصدقائي وعانقني أحدهم، لكن قبل أن أتمكن من معانقته، اضطررت إلى تعديل رباط أزرق على كتفي. كان على أن أوضح أنها كانت تستخدم في رفع ذراعي، مما أدى بسرعة إلى تخفيف الانزعاج الذي شعر به أصدقائي. لقد مرَ الأمر سريعًا ، وعلى الرغم من أنه كان من الواضح أنني لن أخرج معهم في ذلك اليوم ، شعرت أنني ما زلت جزءًا من صفي.

علمني الوقت الطويل الذي أمضيته بمفردي كيفية توجيه طاقاتي ومحادثاتي إلى الكتابة والشعر، وبالفعل ألقيت الشعر في عروض للمواهب وفي المناسبات العامة.، وجدت الشعر طريقة مثلى تعينني على طرح الأفكار الصعبة وغير المتبلورة التي كانت لدي حول الوقت والفناء. أعتقد أن البعض يرون أن العقلانية تؤدي بالضرورة إلى السخرية؛ ومع ذلك، فقد تعلمت أنه غالبًا ما يكون من المنطقي أن يكون لدينا الأمل وأن نجد المتعة في حقائق الحياة البسيطة.، ما زالت أفتقد روح الدعابة لما واجهته من معاناة واحساس باقتراب الموت، ولكني أؤمن أن الضحك   له أيضا فوائد عظمى. لم تكن الفكاهة ملائمة في هذا الوضع كما يقول الأخرين.

 يرى البعض أن من يطرح النكات أو الفكاهة في الوقت الصعب لا بد من أن لديه مرض ذهني أو عقلي.  رغم أن الدعابة لديها القدرة على شفاء الأرواح المجروحة. فهي وسيلة لدعوة الناس إلى تحدي الهزيمة والتعامل مع مخاوفهم الخفية والعبثية التي غالبًا ما يواجهونها في الحياة. كما أنها تقرّب الناس إلى بعضهم البعض، وهي تقارب الشعر في رقتها وأثرها، لما تمنحه للفرد من مجموعة واسعة من الأدوات لفهم الجميع والسماح لهم بالرد على أفكارهم. لن أقول إنني ممتن لخوض هذه التجربة؛ ومع ذلك، لا أعتقد أن أيًا من هذه المعاناة كانت ضرورية. حيث لا أتمنى إعادة إدخال الكوليرا للأطفال حتى يكون لديهم تقدير أكبر للحياة. هذه مهارات يمكن تعلمها ، وكان من الأفضل أن أتعلمها من صديق أو معلم بدلاً من قضاء شهور في الألم والعزلة.

غالبا ما أخبر الناس عند مقابلتي الأولى بهم بإصابتي بالسرطان، إن تاريخي مع السرطان هو شيء غالبًا ما أُخبر الناس به في غضون دقائق من مقابلاتهم لأول مرة. وبصفتي شخصًا يستمتع بالفكاهة، فإن جزءً من عقلي يستمتع بفرصة قلب توقعات الناس. ويحدث ذلك كثيرًا في صفي أن أتحدث عن حقيقة إصابتي بالسرطان، وهم يتأوهون كلما ذكرت أنني مررت بهذه التجربة. وفي معظم الأيام كنت أسمعهم يقولون، إنه شيء بسيط. ومع ذلك، عندما أسمعهم يقللون من حجم الظروف الأليمة التي تعرضت لها. كنت أود أن يحدث هذا من ورائي ، ولكن أعلم أنه كان صعبًا عليَ وفي بعض الأحيان مؤلمًا. لا أشارك في كثير من الأحيان هذا الجانب من تجربتي. لم أخبرهم بذلك لبضع سنوات بعد المرض، عندما كنت أعود إلى قسم الطوارئ قلقاً من عودة ألم الصدر، أو من شعور بألم في ساقي مرة أخرى، كنت متوتراً لأيام لأنه لم يتغير شيء عضوياً في ساقي. كان الذعر الذي شعرت به في تلك اللحظات حقيقيًا للغاية ، وتَرَكَتْ تجربتي بصمة لا تُمحى على نظرتي وسلوكي. سأستمر في صنع النكات حول تجاربي، وسأكون أكثر ايجابية في توضيح أن هذه المسألة ما زال من الصعب أن أتحدث عنها مع الأخرين، وأنهم مهما تعاطفوا معي فلن يشعروا ما شعرت أو تألمت به في تلك الأيام المريرة.

أثناء قيامي بجولات كطالب في السنة الثالثة من كلية الطب، لاحظت أن زملائي يشعرون بالضيق والقلق من الحالات “الأكثر صعوبة”

 الأمراض المتنقلَة والوراثية والمسببة للإعاقة هي أكثر ما يخشى الأطباء حدوثها. كثيرًا ما يخبرني زملائي أنهم عندما  لا يوجد أمل في النجاه ، يشعرون وكأنهم يخذلون مرضاهم. أنا متعاطف مع تلك العقلية. فنحن كأطباء في المستقبل، نتمنى جميعًا أن نرى مرضانا يغادرون عيادتنا مبتسمين ومستعدين للاستمتاع بحياتهم في صحة وراحة تامة. ، ومع ذلك  أريد أن أقدم مساعدتي في المكان الضروري. بالطبع، لا يمكنني أن أقدم للوالدين طفل مولود بأمراض خلقية متعددة ولن توجد فرصة لرؤية طفلهما يتكلم كلماته الأولى، يخطو خطواته الأولى دون مساعدة، أو رؤيته يكبر ويصل لطول أمه ويقود أسرته في رحلة على الطريق. لا أستطيع حتى أن أقدم للوالدين الكثير من الوقت. لكن يمكنني أن أقدم لهم الإطئنان. غالبًا ما أفكر في لجين، المتدربة التي صادفتها، وأتذكر مدى قوة رغبتها في فعل الخير.أتمنى أن أكون مثلها والعديد من الصالحين الآخرين الذين ساعدوني. أتمنى ذلك كثيراً.

Share this post